في ليلة شديدة البرودة , ورياحها عاتية , في قرية صغيرة تقع على نهر السين , بيت قديم , غارق في الظلام , لا يظهر النور منه الا من كوة صغيرة في الطابق الأرضي , تتراقص أضواء الشموع الغليظة , لدرجة أنها قد تقتلع من الشمعة بسبب الرياح الشديدة , على ضوء هذه الشموع تجلس شابة صغيرة , محنية على ماكينة الخياطة وتعمل بانهماك شديد , يدها البيضاء الباردة تمر على القماش بسرعة كبيرة طلبا للدف , تغطي شعرها بوشاح صغير لتمنح أذنيها بعض الدف , تتساقط غرتها على جبهتها بعشوائية جميلة من تحت الوشاح , أنفها صغير تكسوه حمرة خفيفة من أثر البرد , ورجليها تتحرك بتناغم وايقاع مع يديها لتحيك الثياب , كانت تحدث نفسها وهي مغمورة من رأسها لأخمص قدميها بقطع القماش المطلوب منها تفيذها للاطفال في موسم الأعياد , تذكرت ليلة الميلاد عندما كانت بصحبة والديها , كانت تنعم بالدفء أمام مدفأة منزلهم تغطي نفسها بشال من الصوف , وتستمع لطقطقة الأخشاب في النار , ثم يأتي أباها ومعه مجموعة من الأسياخ وحلوة الخطمى كي يتمتعوا بطعمها مشوية على نار المدفأة , وأمها خلفها تطرز لها الثوب الجديد لكي تحتفل بالعيد غدا مع العائلة والأصدقاء , ظل يتوالى عليها شريط الذكريات حتى اليوم الذي جاء فحطم قارب الاسرة السعيدة على صخرة الموت المؤلمة , فقدان والديها ترك في روحها جرحا كبيرا , ظلت تبكي بحرقة ودموعها الساخنة تكاد تتجمد على وجنتيها ظلت تحيك بسرعة وهي تبكي و تتعالى شهقاتها والدموع تتناثر على الثياب , حتى خارت قواها , وارتمت رأسها على الماكينة التي امامها وقدميها لا تزال تعملان , كلما قلت سرعتها , خفت الصوت القادم من بعيد , تنبهت فتوقفت عن العمل , فانقطع الصوت تماما , عادت تعمل بهدوء بدأ الصوت يعلو شيئا فشيئا , صوت أجراس جميلة تدق الواحد تلو الآخر , كلما زاد جهدها كلما اتضح الصوت ايضا , اختلطت أصوات الأجراس , بقرقعة القدور , وضحكات الأطفال , وصوت أوراق الهدايا وطقطقة النار , مع كلمات من والديها لم تستطع تمييز الصوت جيدا , اهتزت قدميها بشدة وبدأت يديها تعمل بجنون , تتعالى صوت الماكينة مع تعالي اصوات الأجراس , بدأت تقهم ما يحاول والديها قوله لها , يشتد توترها , ويعلو نحيبها وهي تهذي وتقول أنا قادمة , أنا قادمة .
تمت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق